في ذكرى انقلاب 18/ 19 أغسطس 1991 لحظة بلحظة :مصير جورباتشوف معلق على شعرة وبوش مشغول بمباراة جولف..”1″.

629

تقرير يكتبه نبيل رشوان

*عرف الأمريكيون بالإنقلاب من التليفزيون.
*فى البداية اختار الأمريكيون عدم استنكار الإنقلاب بشدة، مخافة أن ينجح الإنقلابيون.
*الرئيس بوش استنكر عدم تنبؤ المخابرات المركزية بالإنقلاب وكان يستقى معلوماته من سى إن إن.
*أكثر ما كان يقلق بوش هو أن يوقف الإنقلابيون إذا نجحوا فى سحب قواتهم من شرق أوروبا.

مما لا شك فيه أن انقلاب أغسطس عام 1991 فى الاتحاد السوفيتى كان نقطة فارقة فى حياة الإمبراطورية السوفيتية، التى كانت عنصر توازن فى العالم على مدى 70 عاماً، وحدوث انقلاب يشارك فيه الكى جى بى الرهيب ووزير الدفاع أى الجيش ووزير الداخلية ويفشل فهذا كان معناه كتابة شهادة وفاة الإمبراطورية. وتحول الإنقلاب من محاولة لإنقاذ الإمبراطورية، إلى المسمار الأخير فى نعشها. سنتابع هذا الأمر من خلال كتاب “الإمبراطورية الأخيرة، انهيار الاتحاد السوفيتى لمؤلفه بناء على الوثائق الأمريكية سيرجى بلوخى وترجمه د/ نبيل رشوان. سوف ننشر الفصل الخاص بإنقلاب أغسطس على حلقات. وإليكم ترجمة ما جاء فى الكتاب ـ الحلقة الأولى.
“ميخائيل! آمل أن يكون كل شئ عندكم على مايرام”، هكذا كانت أولى الكلمات المتخيلة الموجهة، التى سجلها بوش على جهاز التسجيل الصغير. كان جورج بوش خلال فترة رئاسته يقوم بتسجيل يومياته صوتياً على جهاز تسجيل. فى مساء 19 أغسطس 1991 كان الرئيس بفكره بعيداً عن الولايات المتحدة: فقد كان يفكر فى ميخائيل جورباتشوف.
آمل أن يتعاملوا معكم بإنسانية. قيادتكم للبلاد كانت بناءة بشكل خيالى. لقد هاجموكم من اليمين ومن اليسار لكن ثقتى فيكم بلا حدود. اللعنة. حتى الآن نحن لا نعرف، ماذا يحدث فى بلدكم، أين وفى أى ظروف يحبسوكم، لكننا كنا محقين، فى تقديم الدعم لكم. أنا فخور بأننا كنا ندعمكم، ألن يكون هناك نقص فى “الرءوس المتحدثة”، فى التليفزيون، ستوضح أن ما تم فعله خطأ، فقد كانت كل تصرفاتكم، لها هدف واحد ـ هو جعل بلادكم أفضل وأقوى وأغنى.
سجل الرئيس أفكاره عن القاع، الذى أسماه تاريخى على النحو التالى. فى ذلك اليوم هناك فى موسكو البعيدة، زملاء جورباتشوف السابقون أعلنوا حالة الطوارئ، وأقالوه من منصبه، وادعوا أن حالته الصحية لا تسمح له بممارسة مهامه، ونزلت الدبابات للشوارع. بوش كان قد عاد من موسكو منذ عدة أسابيع فقط، ولم يتوقع تطور الأحداث هذه الدرجة. فقد قضى الليلة السابقة فى بين أفراد أسرته فى ووكر بوينت بمدينة كينيبانكبورت (ولاية مين)، وأكثر ما كان يقلقه، مباراة الجولف التى كانت تنتظره فى الصباح. فقد كان عليه أن يبدأ فى السادسة والنصف، قبل وصول عاصفة “بوب” للشاطئ. مجموعة الأصدقاء، التى تجمعت مكونة من بينت سكوكروفت الذى كان يسكن بفندق “نوناتوم” فى كينيبانكبورت، وروجركليمينس رامى الكرات الشهير بملعب “بوسطون رد كوكس”. لكن بمجرد أن خلد بوش للنوم، أيقظه رنين التليفون. مستشار الأمن القومى، عادة ما يكون هاتفه، ليس لمجرد الحديث عن اللعب أو سوء الطقس الذى يهدد بإلغائه. لقد تكررت حكاية العام الماضى، عندما قام صدام حسين بغزو الكويت. الخبر كان يتعلق بالسياسة الدولية ويهدد ليس فقط بإلغاء، ليس فقط مباراة الجولف، لكن الإجازة نفسها: لقد حدث انقلاب فى موسكو.
قبل ذلك بنصف ساعة، كان سكوكروف يرقد فى السرير، يقرأ الأخبار. التليفزيون كان على قناة السى إن إن التى، تعرض الأخبار على مدى 24 ساعة، وبطرف أذنه، سمع مستشار الأمن القومى، قول المذيع شئ ما عن استقالة جورباتشوف لأسباب صحية. بدا هذا الأمر محل شك: فمنذ عدة أسابيع رأى سكوكروفت جورباتشوف، وكان بكامل عافيته، ممكن استمع خطأ. وكالة تاس أعلنت عن مرض جورباتشوف وتشكيل لجنة، مكلفة بإعلان حالة الطوارئ. من بين قادة اللجنة ـ مجموعة من المؤيدين للخط المتشدد على رأسهم نائب الرئيس جينادى ينايف ـ وكان كذلك رئيس الكى جى بى فلاديمير كريوتشكوف ووزير الدافاع دميترى ياوزف. اتصل سكوكروف بنائبه روبرت جيتس، ليتأكد من ذلك عن طريق المخابرات السى آى إيه. بعد ذلك استدعى نائب السكرتير الصحفى رومان بوباديوك، الذى كان فى نفس الفندق، وكلفه بإعداد تصريح بخصوص ما حدث، إذا تأكدت المعلومات.
اتصل سكوكروف بالرئيس و أخبره بما عرف. حتى تلك اللحظة لم يكن يوجد تأكيد من أى قناة حكومية، بما فى ذلك المخابرات الأمريكية سى آى إيه. يا “إلهى!” ـ وكان أول رد فعل لبوش، هو، مناقشة، كيف سيكون رد فعلهم: الصحفيون كادوا أن يقتحموا باب غرفة بوباديوك بالفندق. “كان الرئيس يميل إلى إدانة الانقلاب علناً، لكن فى حالة نجاحه سنكون مضطرين للتعامل مع الإنقلابيين، بصرف النظر عن، لأى درجة هم مثيرين للإشمئزاز، من وجهة نظرنا، سلوكهم، ـ كما يتذكر سكوكروفت ـ . ونحن قررنا، أن تكون نغمة الرئيس مستنكرة، لكن لن نحرق كل الجسور”. أفكار سكوكروف لم تكن وردية على الإطلاق: إنقلاب مع هذا العدد من أصحاب الوزن الثقيل المشاركين، من الممكن أن ينجح تماماً. “غير دستورى (………) ـ هذا الوصف اقترحه سكوكروفت على الرئيس. وقبل أن يحاول الرئيس الخلود للنوم من جديد، اشترطوا، أن يتابع سكوكروفت الموقف، ويهاتف الرئيس فى الخامسة والنصف صباحاً. خرج بوباديوك للمؤتمر الصحفى بتصريح مقتضب، فى جوهره معترفاً بأن الإدارة ليس لديها معلومات من مصادر مستقلة. وقال لسكوكروفت، إن الرئيس ينتظر أخبارا من الصحافة فى الصباح، ومن غير المحتمل أن يقوم الرئيس بمناقشة الانقلاب من ملعب الجولف. أجابه سكوكروفت:”من الممكن أن يهطل المطر”. كان علينا أن ننسى الجولف.
فى الصباح، أصبح الأمر أكثر وضوحاً، فقد تبددت الشكوك حول الانقلاب. ماذا حدث لجورباتشوف؟ ماذا فى ذهن الانقلابيين وكيف سيؤثر الانقلاب على العلاقات السوفيتية ـ الأمريكية والاتحاد السوفيتى نفسه؟ الجميع كان يفهم، أن هذه الأحداث لن تمر بدون تبعات.
كانت المخابرات الأمريكية كالعادة تدرس كل الاحتمالات. احتمال العودة لنظام ما قبل البيريسترويكا، وكان المحللون يتوقعون احتمال ذلك بنسبة 10%، واحتمال أن ينتهى الأمر على لا شئ بنسبة 45% ، فيما يتعلق بعلاقات الديموقراطيين ومؤيدى الخط المتشدد، واحتمال هزيمة المتآمرين تدخل ضمن 45%. كانت المخابرات الأمريكية ترى أن إمكانية نجاح الانقلاب محل شك كبير، على عكس سكوكروفت، الذى بسبب عدم ملاحظة، إعداد أى مقاومة جادة، ولو جزئية، جادة حتى: الإنقلاب تم القيام به بشكل تلقائى تقريباً. بقى فقط أن نضرب الودع، حول كيف ستتطور الأمور. عقد بوش جلسة محادثات مختصرة مع رئيس وزراء بريطانيا جون ميجور ورئيس فرنسا فرانسوا ميتران. كانت أخبار الانقلاب بالنسبة لهما، مثل الرعد فى قلب سماء صافية. شرح بوش لميتران، أن المتآمرين، فاجأوا جورباتشوف فى ظروف صعبة (التمسك بهذا الخط، نصحه به سكوكروفت فى الصباح). “إذا كانوا هم لا يعرفون، اللعنة، من أين كنا نعلم نحن؟”. ـ هذا ما سجله الرئيس على جهاز التسجيل الخاص به. تبين أن الأحداث بدأت تأخذ الدورة الأسوأ: لم يكف المخابرات الأمريكية، أنه لم يكن لديها علم بالانقلاب، بل أن الرئيس ومستشاريه، كانوا مضطرين للحصول على المعلومات من السى إن إن. “أكدت الصحافة، أن المخابرات، تعمل بشكل سئ”، ـ هكذا اشتكى، بوش، فى الصباح لرئيس وزراء كندا برايان مالرونى.
اتضح كذلك أن وزارة الخارجية، غير مستعدة. فقد عرف جيمس بيكر، الذى كان يقضى إجازته فى فايومينج، بالإنقلاب من مركز عمليات وزارة الخارجية، فقط، بعد مرور ساعة على سماع سكوكروفت به من خلال نشرة الأخبار فى التليفزيون. توزيع المعلومات من واشنطن، وإخطار مساعديه المنتشرين فى حول العالم، قام بيكر بكتابتها فى البلوك نوت الذى، يحمله أثناء السير. فى أعلى صفحات البلوك نوت الصغيرة كتب عبارة، أزمة دولية غير مناسبة للتسوية: “من أجل زوج من القرون، الصياد موافق على أى شئ” (…………….). أول تسجيلات لبيكر كانت كالآتى: “ليس هناك أى تأثير. كل شئ فى أقل الحدود”، “لبعض الوقت، سيكون الأمر معقداً، أن تعمل مع شركاء جدد”، “مؤكداً على غياب الخبرة السياسية لديهم”. بعد ذلك، على ما يبدو، لاح بريق أمل: “يلتسين الآن شخصية محورية. يجب أن نستمر فى العلاقات معه. وإظهار أننا نحاول جمع معلومات، وإقامة اتصالات مع الإصلاحيين”.
وفى موسكو كما لو كان عن قصد، كان السفير جيك ميتلوك قد غادر مكان عمله، وهو الذي عين مكانه روبرت ستراوس الذى، لم يتسلم مهامه بعد. ستراوس من تكساس، مرتبط بعلاقة وثيقة مع بوش، لا يجيد اللغة الروسية، وبدون خبرة دبلوماسية ـ كان يجب أن يكون همزة الوصل بين رئيس الولايات المتحدة وجورباتشوف. والآن اتضح أن جورباتشوف غادر المسرح. هاتف بوش القائم بالأعمال جيم كولينز، الذى استطاع أن يتواجد فى مبنى البرلمان الذى يفصله عن مبنى السفارة الأمريكية شارع. كولينز للرئيس أن البيت الأبيض (مبنى البرلمان الروسى ـ المترجم) مفتوح، لكن لا أثر لبوريس يلتسين هناك. ولا يوجد ما يهدد الأمريكيين الموجودين بموسكو.
هذا هو ربما كان الخبر الوحيد الجيد الذى استطاع بوش أن يخبر به الصحفيين، المختبئين من أمطار العاصفة التى هبت، فى قاعة ضيقة من منزل الرئيس. أعرب بوش عن قلقه الشديد بسبب الأحداث فى موسكو، وأكد أن الحكومة الأمريكية تتابع الوضع، وصرح أن المؤامرات، أحياناً تفشل: “يمكن فى البداية، أن تسيطر على السلطة، لكن بعد ذلك تصطدم بمقاومة الشعب”. واتباعاً لنصيحة سكوكروفت، وصف الرئيس تغير السلطة فى الاتحاد السوفيتى بأنها غير دستورية. وبدا مديح بوش لجورباتشوف، وكأنه رثاء. واعترف بأنه لم يبذل محاولات للاتصال تليفونياً بالزعيم السوفيتى. فقد كان أكثر ما يقلق بوش، مدى استمرار المتآمرين فى سحب القوات السوفيتية من شرق أوروبا، والذى بدأه جورباتشوف، وهل سيلتزمون باتفاق خفض الأسلحة الاستراتيجية الهجومية وغيرها من اتفاقيات السيطرة على التسلح النووى. قال الرئيس إنه، سيقوم بتجميد كل المساعدات المقدمة للإدارة “الغير دستورية”، لكن لن تفرض عقوبات، إذا لم تخل القيادة السوفيتية الجديدة بالتزاماتها الدولية. إلى الحلقة القادمة. ماذا فعل بوش، ورحلة البحث عن يلتسين لإنقاذ الموقف رغم عدم حبه له.
د/ نبيل رشوان

التعليقات متوقفه