هواء نقى: جَلَّاب الفراق

170

كم هو قاسٍ هذا الموت، جَلَّاب الفراق، وكم هو قدرٌ جائرٌ أن تغلق قطعة من القماش على وجه من تُحب بيديك وتضعه تحت التراب.
بأيديهن وضعونا على طريق الحياة حين أنجبونا لتكون أيدينا هى من تضعهم فى القبور أنها مفارقات الدنيا دار العقاب.
نعم الدنيا هى دار العقاب، فعندما أراد الله أن يعاقب آدم وزوجه على معصيتهما للأمر الإلهي أنزلهما إلى الدنيا. إذن ليس انتقال الإنسان الى الحياة الأخرى هو أمر سيئ كما نعتقد، ولكنه الفراق المؤلم الغائر الوجع الذى يحاصر النفوس.
كنت أظن أننى عندما كبرت وتزوجت وأنجبت أولادًا أننى قد استغنيت عنها وأن دورها كان شرفيًا فى حياتى .. لكن فجأة بعد رحيل أمي شعرت بأن الدنيا أشبه ببيت كنت أسكنه وسقط سقفه وظلال جدرانه مقصورة على نفسها ولا تسع من حولها.
كنا نختلف معًا أكثر مما نتفق، لكن خلافها معى دائمًا ما كان يثرينى ويدعمنى ويلفت انتباهي إلى نواقصى، إنه الاختلاف البناء ولأنها كانت صارمة جدًا معنا فلم تلتمس لأحدنا يومًا أى أعذار إذا تفوه بلفظ غير لائق، وتقول لنا «أنا ما ربتكوش على كدا وتنتقدنى وتقول لى «الصحافة بوظت أخلاقك» وتمتعض لما تسمع من شتائم فى الشارع.
استشعرت اليتم بعدها وأشعر أننى عُدتُ طفلةً واحتاج إلى حضن أبكي داخله همس يديها على شعرى قبضة كفيها على يدى مازالت حاضرة نظرتها الثاقبة عندما كانت تغضب منى ولما كانت تمر على غرفتى وأنا أمشط شعرى أثناء النوم وتقولى اتعاملي مع شعرك برفق، ولما كانت تعمل لى حاجة حلوة علشان أصحابي هيزروني، ولما كانت تقولى انزلي وأنا فى الجامعة وارفض، وتقول لى هعملك وز ومحشى من اللى انتِ بتحببه. وتقعد تعد كل ساعة وكل لحظة وهى منتظرة وصولى.
كل لمسة وفعل لها ترك أثرًا فينا وفى كل من عرفها لأنها فعلا كانت مختلفة .. ولكن هل سيغلبنا الموت بجلبه الفراق؟ ويفقدنا الحميمية .. لا لن نستسلم لأن الأرواح تتلاقى فى «الموت الأصغر» كما يسميه محيى الدين بن عربى «أثناء النوم»، وتتحد الأرواح محل المبشرات، وسأجعل منه بستان اللقاء يا أمي وأسمعك وتسمعينى وأشاهدك وترينى، وأتلقى منك كما علمتينى، فسلامًا لروحك الطاهرة فلترقدي مع الشهداء والقديسين، وسأذكرك دومًا فلا تتأخري عنى أو تنسيني.

التعليقات متوقفه