ضد التيار ..أمينة النقاش تكتب :عن الحياة الحزبية وأحزانها

9

أعفتنى الدكتورة “فاطمة سيد أحمد” عضو مجلس أمناء الحوار الوطنى من سرد سلسلة من الروايات والإحالات وتفاصيل المعارك المفتعلة، التى تحفل بالمواقف العدائية التى اتخذها الإعلام القومى المملوك للدولة، بكل وسائله ومختلف أشكال تعبيره، من صحف وإعلام مرئى ومسموع، عن الحياة الحزبية على مدار 47 عامًا. ومنذ عودة التعددية الحزبية فى عهد الرئيس السادات عام 1976، بعد أكثر من عشرين عامًا من إلغائها، مرورًا بعهد الرئيس مبارك وحتى الآن، لم يتوقف الإعلام الرسمى عن التشهير بالتجربة الحزبية وبقادتها والاستخفاف بها والتشكيك فى ولائها الوطنى والتقيل من جدوى وجودها، والشماتة فى محدودية انتشارها وتأثيرها، وانصراف الجماهير عن المشاركة فى عضويتها. ولم تكن تلك الوسائل الإعلامية تجد ما يستحق أن تقدمه لقرائها، أو تخصص له بعض أوقات بثها سوى أخبار الانقسامات والاستقالات والخلافات التى تنشأ داخل تلك الأحزاب، مع أن بعض تلك الانشقاقات كان صناعة حكومية، لتسخيف الحياة الحزبية، ومواصلة إضعافها وتهميشها، وإفقادها أى شكل من المصداقية أمام الرأى العام، ووضع العراقيل أمام استقلال قرارها.

بعضًا من كل ما سبق فعلته الدكتورة “فاطمة سيد أحمد” فى المناقشة التى جرت يوم الأحد فى لجنة الأحزاب السياسية فى جلسات الحوار الوطنى. اعترضت بتوتر مبالغ فيه، ولا أقول غير لائق، على كلمة الدكتور “جودة عبد الخالق” لنقده للموقف العدائى لوسائل الإعلام من الأحزاب، وتقديمه شرحا للبيئة السياسية والتشريعية المعادية لنشاطها، والمتمثلة فى قوانين الانتخابات النيابية وتقسيم الدوائر والمحليات ومباشرة الحقوق السياسية والتظاهر والاجتماعات، وتدهور التعليم، قاطرة رفع الوعى وغرس الاهتمام بالشأن العام وتقدم المجتمعات، وسرده للممارسات الأمنية مع حزب التجمع الذى يعد أحد أبرز قادته ومؤسسيه. أما اعتراضها فلم يكن سوى كلام مرسل عن تحالف بعض الأحزاب مع الإخوان، وعن خلافات أعضاء التجمع حول القضية الواحدة فى وسائل الإعلام، لم تذكر مثالًا وحيدًا يدلل عليها. وحين اعترض على طريقة حديثها بعض من فى القاعة، وصفتهم بالطابور الخامس وانسحبت من الجلسة.
ليست الواقعة مهمة فى ذاتها، لكنها مثال واحد بين أمثلة عدة عن سبل تشتيت الحوار وإبعاده عن تحقيق الهدف المرجو منه. وليست المحاور التى تم فرضها للنقاش فى لجنة الأحزاب السياسية سوى مثال آخر على هذا التشتيت. فإلى جانب النقاش المطلوب حول قانون الأحزاب ودور لجنة الأحزاب، فمن هو القائل أن مشكلة الأحزاب السياسية تكمن فيما طرح للنقاش حول ما يسمى الدمج والتحالفات الحزبية والحوكمة المالية والإدارية. ولعلم كل من لا يعلم فإن الأحزاب السياسية، تخضع أنشطتها وإصداراتها الصحفية لمراقبة الجهاز المركزى للمحسابات، إذا كان ذلك هو المقصود من الحوكمة المالية والإدارية المشار إليها. كما أن التحالفات الحزبية والدمج بين أحزاب متعددة، هو فيما أعلم، شأن الأحزاب السياسية نفسها لا علاقة له بحوار وطنى يبحث فى وسائل تطويرها، وإزالة المسببات التى أدت لإضعافها وراكمت أزمتها الراهنة، وفى مقدمتها ما قال به دكتور جودة، فساد البيئة السياسية الحاضنة للعمل الحزبى. هذا فضلا عن غيبة الإجابة عن سؤال، طالما هى أحزاب كارتونية وضعيفة كما قيل فى الجلسة فما جدوى اندماجها؟ ولعل التعامل الأمنى لا السياسى مع الأحزاب، وقصر قضية الديمقراطية على مجرد وجودها بجانب صندوق الانتخاب، واصطناع أحزاب لزيادة أعدادها، ثم التحسر على تلك الزيادة المفتعلة والمطالبة بدمجها، يظل هو جوهر المسألة فى فساد تلك البيئة!
الدعوة لدمج الأحزاب والتحالف فيما بينها، لن يخرج الحياة السياسية من أزمتها الراهنة، بل هى حل شكلى كسول، يهرب من مواجهة الحقيقة القائلة، أن تلك الأزمة هى تعبير عن النسق الفكرى والحركى لسياسات قائمة بالفعل فى النظام السياسى المصرى منذ السادات وحتى الآن.
وأفضل تعبير عن هذا النسق هو ما قاله “صلاح عيسى”: “إن الأحزاب فى ثوبها الجديد باتت مجرد وردة فى عروة جاكتة الأنظمة الحاكمة تتزين بعا لتتباهى بها عند الغرب، وتحاصرها وتقمعها طول الوقت”. هذا النسق، هو أن النظام الحاكم لا يؤمن بالتعددية الحزبية، برغم دستور البلاد الذى يقرها، وإلا ما ترك وسائل إعلامه، التى لا تتحرك خارج إطار التوجيهات والتعليمات يصول ويجول خلال عقود محذرا الناس من مخاطر الأحزاب، فى واقع حزين تعم فيه الأمية اللغوية، وتحرم ملايين المصريين من امتلاك أدوات المعرفة التى توصلهم إلى الوعى السياسى، وتتضاءل فيه نسبة المهتمين بمتابعة السياسة والشأن العام، مع تراكم المصاعب الاقتصادية والمشكلات الاجتماعية التى تعمق بؤس هذا الواقع .
هذا النسق، هو ما يفرض أشكالا من القيود القانونية والعرفية على أنشطة الأحزاب فى الجامعات والتجمعات الجماهيرية، وهو ما يوقف الدعم المالى للأحزاب وللصحف التى تصدرها. وهو نفسه ما يحاصر العمل النقابى العمالى والمهنى والطلابى، ويرفض أن يترك له المجال ليستقل ويقوى خارج نفوذ الهيمنة الحكومية.
انتهت مساحة المقال، ولم أتمكن من سرد بقية الشواهد على أن الحكومة تتعامل مع الأحزاب وفقا للمثل القائل: لا بحبك ولا بأقدر على بعدك!

التعليقات متوقفه