د. جودة عبدالخالق يكتب :نزهة المشتاق

4

لقطات
نزهة المشتاق

جودة عبد الخالق


العنوان هنا مستوحى من إحدى أمهات كتب الجغرافيا. أقصد بذلك الكتاب العمدة “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” للعالم العربى الشريف الإدريسى (القرن الثانى عشر) مؤسس علم الجغرافيا الحديث. والمناسبة هي اشتياقى الى ممارسة طقوس رمضان الخاصة بى بعد انقطاع دام ثلاث سنوات، بسب جائحة كورونا ثم العمليات الجراحية التي خضعت لها خلال تلك الفترة. فأنا فعلا أتحرق شوقا للعودة الى طقوسى الرمضانية التي اعتدت عليها زمنا طويلا. (وعلى فكرة، ليس من بينها متابعة المسلسلات). باختصار، طقوسى الرمضانية مزيج متوازن من العمل والعبادة، للجسد وللروح. ويأتي على رأس تلك الطقوس الصوم والصلاة وقراءة القرآن والتأمل. لكنى أيضا أحرص أن يكون لى برنامج عمل يومى. وهناك دائما جُعلٌ من الوقت للتمرينات الرياضية. ولكن من أهم الطقوس كالمعتاد رحلة الجمعة الثانية من رمضان. إنها رحلة العودة الى الجذور.

شددت الرحال مع زوجتى الدكتورة كريمة كُريِّم الى ميت العز، مسقط رأسى ومرتع صباى. هذا العام، ازدادت سعادتنا بصحبة اثنين من تلاميذى. تحركنا من المعادى الى الدائرى، ثم سلكنا طريق شبرا – بنها الحر. ثم استقمنا على طريق بنها – المنصورة غرب الرياح التوفيقى حتى ميت العز. الطريف أنه في كل مرة بمجرد أن أبلغ بداية طريق التوفيقى حتى تنتابنى حالة خاصة جدا. يتملكنى شعور طاغ بالحنين، ويتدفق سيل من ذكريات الطفولة والصبا التي صمدت أمام عدوان الزمن وتجارب السنين. بعد مسافة قصيرة على طريق التوفيقى ينساب الينا في مثل هذا الوقت من العام عبق أزهار البرتقال والليمون والمشمش، مختلطا برائحة عادم السيارات المارقة. لم تخل الرحلة من بعض الأشجان: الرياح التوفيقى ضاق مجراه بشكل ملحوظ. اختفى السياج الأخضر من أشجار الكافور التي كانت تظلل شاطئيه وتحنو على مياهه، وحل محلها لون الأسمنت الكالح. لاحظت أن ميت العز قد أصبحت مزيجا غريبا من قرية كبيرة ومدينة صغيرة. داهمنى إحساس غريب بالوحشة والخوف.
وبمجرد بلوغنا ميت العز، توجهنا الى مقابر الأسرة لقراءة الفاتحة والتدبر. ثم تحركنا الى مضيفة آل خليل. فهناك، وعلى امتداد أكثر من ثلاثين عاما، موعد الإفطار الجماعى السنوي للخلايلة، كما يسموننا في قريتنا. المنظر مدهش. أكثر من 100 من الخلايلة، جاءوا من كل حدب وصوب داخل المحروسة ومن خارجها. أطفالًا وشبابًا وشيوخًا، إناثًا وذكورًا. انضموا الى باقى أعضاء العائلة ممن لا زالوا يفلحون الأرض الطيبة في ميت العز. يتحلق الجميع حول عدة طاولات ليتشاركوا طعام الإفطار. حقا، “لقمة هنية تكَفّى 100”. وبعد الإفطار استقبلنا وفدا من عائلة أمى، آل جاد الله أو الجوادلية كما يسمونهم. كما سعدنا بزيارة الدكتور محمود العزب عضو مجلس النواب المستقل عن دائرة ميت غمر، وتراوح حديثنا بين العام والخاص.
ولعلكم أعزائى القراء تذكرون كم دافعت عن الغلابة، وفى مقدمتهم الفلاحون، خصوصا بالتحول من دعم استهلاك الخبز إلى دعم إنتاج القمح. وقد ترجمت هذا عمليا عندما كنت وزيرا، كما سجلته في كتابى “من الميدان الى الديوان”. وفى هذا السياق، وبمناسبة اليوم العالمى للمرأة (8 مارس) لا يفوتنى أن أشيد بسيدتين من فلاحات ميت العز لهما إبداعاتهما في إنتاج خبز منزلى متميز. أتحدث عن الست شريفة (أم يوسف) والست أسماء (أم شادى). وهما فلاحتان من بسطاء ميت العز. لكنهما يقدمان بالسليقة نموذجا لترجمة مفاهيم الأمن الغذائي والسيادة الغذائية إلى واقع. إنها تجربة تستحق الاهتمام والمتابعة. وأنا أنتهز هذه الفرصة لأحييهما ولأثمن جهودهما عاليا. وأدعو الإعلام الواعى لأن يسلط الضوء على تجربتهما الملهمة. تحية من القلب والعقل لأم يوسف وأم شادى، وأكثر الله من أمثالهما.

التعليقات متوقفه