فريدة النقاش تكتب:لماذا يهاجر المصريون

136

قضية للمناقشة
لماذا يهاجر المصريون
فريدة النقاش
تساءلت الدكتورة “مني مينا” في مقال لها لماذا يهاجر الاطباء؟ ودارت اجابتها حول ظروف العمل ومناخه إضافة لتدني الأجور.
ومما يثير الاسي والتساؤل ونكاد نعرفه جميعنا نبوغ مئات من المصريين الذين تعرضوا للمناخ الطارد وهاجروا, واذ بمواهبهم تجد البيئة الملائمة للتفتح والازدهار, وينتبه اغلبنا- بعد فوات الاوان- للحقائق الطاردة التي تدفع بهؤلاء الي الهجرة التي تفاقمت لدرجة وصفها بعض الباحثين بنزيف العقول.
يتطلع المواطنون الذين يتخذون قرار الهجرة لا فحسب للحصول علي أجور مجزية ليعيشوا حياة كريمة, ولكنهم يتطلعون ايضا لبيئة حرة لا تضع العراقيل أمام تفتح طاقاتهم, ولا تعرقل سعيهم للوصول الي اقصي ما يمكن أن تحملهم إليه هذه الطاقات.
وكانت البيئة الحرة – نسبيا- التي عمل فيها اغلب من هاجروا من ابناء وطننا هي سبب اساسي في نبوغهم . وليس من قبيل التباهي ان نقول إن المصريين الذين ينتمون الي الحضارة العظيمة التي صنعها اجدادهم عبر التاريخ يحملون في تكوينهم هذا الارث الذي ما ان يجد البيئة الملائمة المشجعة إلا ويزدهر لأنه ينهل من نبع لا ينضب.
ولطالما تكاتف الفساد والاستبداد لتلويث هذا النبع بل وردمه, ولكن الشعب الذي يحمل علي ظهره هذا الارث استطاع دائما ان يدافع عنه ببسالة, ولكن- وبطبيعة الحال ليس بدون خسائر.
نفرح بطبيعة الحال حين يثبت مهاجرون مصريون جدارتهم في اي من المواقع التي اختاروا العمل بها, ولكننا لا نستطيع الا ان نتساءل: لماذا لم تتوفر لهم الامكانات في بلادهم لاطلاق هذه المواهب وجني ثمارها؟ سوف نجد للوهلة الاولي ردا جازما, وهو ان مناخ الحريات والبيئة العلمية الملائمة والمحفزة تتفاعلان للوصول الي هذه النتيجة, ومن ثم تفتحان افاقا بلا حدود لتقدم كل من العلم والمجتمع.
اعتدنا في فترات سابقة ارجاع الاسباب الرئيسية لكل المآسي التي حلت بنا للاستعمار وحده, وقمنا في هذا السياق بما يشابه تقديس الذات الوطنية, وامتنعنا عن اي نقد لعيوبنا, وفتحنا بذلك ابواب التعصب القومي, واخذنا في ظل هذه الافكار نخوض صراعنا ضد الاستعمار باعتبارنا مجرد ضحايا. وغرقنا في الرؤية المثالية التي اعتبرت هذا الصراع حربا بين الخير والشر, ولم نتعرف- الا متأخرين- علي حقائق صراع المصالح في العالم, لنرى بوضوح اعداءنا الحقيقيين واصدقاءنا الحقيقيين.
لا تتعلم الشعوب دروسها الكبري مجانا, ولكنها تخوض اولا آلاف التجارب الصعبة لتستخلص منها هذه الدروس, وما أن تفطن الي حقائق الصراع في هذا العالم بعد ان ابتكرت العلوم والفنون والتقنيات الا وتكرس كل مواهبها وقدراتها علي الابداع من اجل اهدافها.
ولا تكف ماكينة الابداع الانساني عن الاشتغال, وعن طريق هذا الاشتغال الدءوب تقدمت العلوم والفنون والاداب لتفتح امام تقدم البشرية ابوابا كانت مغلقة في السابق, واصبح العلم الذي يتطور في كل ساعة قادرا علي حل مشكلات كانت مستعصية ولكن بقي من اشكال الاستقصاء – او ما نسميه كذلك- هذا الانقسام الفادح بين الاغنياء والفقراء علي كل من الصعيد المحلي والصعيد العالمى.
وتبارت الفلسفات الكبري والمدارس الاجتماعية في سعيها للتخفيف من هذا الانقسام وصولا لوضع حد له. ويعرف العلماء والباحثون ان خيرات الارض يمكن ان تشبع ضعف سكانها, ومع ذلك بقي هناك جوع وبؤس يكافح البشر في مواجتهما ببسالة. شاع في العقود الاخيرة مصطلح الفئات الاكثر احتياجا, ولا يملك المرء ازاءه الا ان يتساءل لماذا لانزال نردد هذا التعبير, ولماذا يبقي هناك المحتاجون, بل والاكثر احتياجا رغم وفرة الخيرات.
ولطالما جادل الاشتراكيون ضد الاصوات الرجعية التي تدعي ان الفكر الاشتراكي اصبح قديما وفقد زهوه وقدرته علي الالهام, وعلا صوت الرجعيين بعد سقوط التجربة الاشتراكية في روسيا واوروبا الشرقية, ولكن الشعوب لا تفتأ تظهر قدرتها علي الابداع والابتكار وفتح الافاق الجديدة امام التقدم في كل ميادين الحياة, واخذت القوي التقدمية والمفكرون والكتاب يذكروننا بأن النظام الرأسمالي ظل يبني نفسه علي مدي ما يزيد علي اربعة قرون, رغم ان الرأسمالية قامت علي نفس الاسس التي نشأت عليها النظم السابقة لها اي استغلال العمل المأجور.
وتفاعلت مجموعة من الاسباب لانتاج هذا الانقسام الفادح في توزيع الثروات علي الصعيدين العالمي والمحلي, واندلعت الانتفاضات والثورات التي رفضت هذا الانقسام, وكانت الظاهرة الاستعمارية تجليا عالميا لهذا الانقسام, ويظل هذا الانقسام يعيد انتاج نفسه رغم المقاومة الباسلة للشعوب التي لا يجوز لنا أن نفقد الثقة في قدرتها علي وضع الامور في نصابها الصحيح, فلا يهاجر البشر من اجل لقمة العيش وانما للتعرف علي الاخرين وتوسيع افاق الثقافة.

التعليقات متوقفه