شرح جذور الخلاف مع أوكرانيا ..الرئيس بوتين: أوكرانيا وروسيا دولتان وشعب واحد

روسيا دعمت أوكرانيا بـ 82 مليار دولار والأخيرة تقاضى روسيا من أجل 1,5 مليار

269

أثار مقال الرئيس الروسى فلاديمير بوتين حول الجذور التاريخية للخلافات بين الشعبين الروسى والأوكرانى ردود فعل متباينة، وقال إنهما شعب واحد، رغم أن هذه الكلمات لا تعكس الظروف السياسية الحالية بأى حال، واستطرد الرئيس بأنه يؤكد أن الحاجز الذى ظهر فى الأعوام الأخيرة بين جزءين هما فى الواقع فضاء روحى وتاريخى واحد، هو فى الواقع بالنسبة له مأساة عامة، ولا يدين الرئيس بوتين طرفا على حساب الآخر فيما حدث ويقول إنها نتيجة أخطائنا التى ارتكبناها فى أوقات مختلفة.

ويتحول الرئيس بوتين إلى الجذور التاريخية للعلاقات بين البلدين، فيؤكد من جديد وحدة الشعوب السلافية فى فضاء الاتحاد السوفيتى السابق، فيقول”إن الروس والأوكرانيين والبيلاروس هم ورثة روسيا القديمة، أكبر دولة فى أوروبا، ثم بعد دخولهم المسيحية الأرثوذكسية أصبحوا موحدي الاعتقاد، القديس فلاديمير حاكم كييف يؤكد قرابتنا لبعضنا البعض”وكان أمير كييف يلعب الدور الرئيس فى الدولة الروسية القديمة، وهكذا أصبحت كييف (عاصمة أوكرانيا) أم المدن الروسية.

التأسيس

لن نستغرق كثيراً ولن يأخذنا الحديث عن روسيا القديمة، الذى أفرد له الرئيس بوتين جزءا كبيرا من المقال، وسنركز على التاريخ الحديث نسبياً إلى تأسيس الاتحاد السوفيتى، وتاسيس الدولة الأوكرانية. فى مارس 1917، تكون فى كييف ما كان يعرف حينها بالمجلس المركزى، باعتباره أعلى سلطة فى أوكرانيا حينها، وفى نوفمبر 1917 أعلن ما عرف حينها بجمهورية أوكرانيا الشعبية، ضمن روسيا.

فى ديسمبر 1917، حضر وفد من ممثلى أوكرانيا إلى برست حيث كانت تجرى مباحثات بين روسيا السوفيتية والمانيا مع حلفائها، وكما يقول الرئيس بوتين فى مقاله، إنه أثناء جلسة يوم 10 يناير 1918، قرأ رئيس الوفد الأوكرانى مذكرة أعلن فيها استقلال أوكرانيا، بعد ذلك أعلن المجلس المركزى فى أوكرانيا عن استقلالها، وبذلك خذلت الأخيرة روسيا، وهى فى أهم مفاوضات لإنهاء الحرب العالمية الأولى مع ألمانيا وتوطيد دعائم الدولة السوفيتية الجديدة بعد الثورة.

لكن الاستقلال والسيادة التى أعلنت لم تستمر لفترة طويلة، وبعد عدة أسابيع وقع وفد المجلس الأوكرانى اتفاقا مع أطراف الكتلة الألمانية، وتم قبول أوكرانيا على الفور لأن ألمانيا والنمسا والمجر كانت فى وضع صعب وكانت فى حاجة ماسة إلى الخبز والمواد الخام الأوكرانية، ولكى تؤمن ألمانيا احتياجاتها حصلت على موافقة من أوكرانيا على إرسال قوات وبعض الاختصاصيين، واستغلت ألمانيا وحلفاءها هذا كمبرر لاحتلال أوكرانيا.

ثم يوجه الرئيس بوتين اللوم لحكام أوكرانيا الحاليين، أو من وصفهم بالذين أعطوا أوكرانيا ليتم إدارتها من الخارج، ويقول لهم فى مقاله إن عليهم أن يتذكروا عام 1918، حدثا مثل هذا الخطأ الفادح الذى يرتكبه حكام كييف الحاليون، وبمشاركة مباشرة من قوات الاحتلال تم التخلص من المجلس المركزى الحاكم الذى أدخلهم البلاد، وتم توليه أحد زعماء القوازق سكوروبادسكى محل المجلس المركزى الأوكرانى، معلناً قيام الدولة الأوكرانية، الواقعة تحت سلطة القوازق.

ويواصل الرئيس بوتين قراءته فى تاريخ أوكرانيا فيقول إنه بعد أحداث ثورية فى ألمانيا والمجر والنمسا فقد سكوروباسكى دعم الألمان وأعلن عن توجه جديد، وهو ضم أوكرانيا إلى الفيدرالية الروسية، غير أن النظام تغير مرة أخرى وجاء وقت عرف بعصر الإدارة.

بدء المشاكل

ثم يكشف الرئيس بوتين فى مقاله عن بدء المشاكل مع غرب أوكرانيا حيث أعلن القوميون الأوكران عن قيام جمهورية غرب أوكرانيا الشعبية، وفى يناير 1919 أعلنوا عن انضمامهم لجمهورية أوكرانيا الشعبية، لكن فى يوليو 1919، ثم تدمير الوحدات العسكرية الأوكرانية على يد القوات البولندية، وهكذا أصبحت أراضى جمهورية غرب أوكرانيا الشعبية تحت السيطرة البولندية.

فى عام 1918 تم الإعلان عن جمهورية دنيتسك ـ كريفاروجسك السوفيتية (شرق أوكرانيا) وكما يقول الرئيس بوتين فى مقاله إنها توجهت لموسكو تطلب الانضمام لروسيا السوفيتية، لكن طلبها قوبل بالرفض، فقد التقى فلاديمير لينين بقادة هذه الجمهورية وطلب منهم العمل فى إطار أوكرانيا السوفيتية (أى أن الحركة الانفصالية فى شرق أوكرانيا ليست وليدة الفترة الحالية)، فى المستقبل كونت جمهورية دنيتسك – كريفاروجسك مع يعرف بمناطق جنوب ـ شرق أوكرانيا محل النزاع مع روسيا الآن، أو ما يعرف بمنطقة الدنباس.

اتفاق ريجا

ثم يتحدث الرئيس بوتين عن ما عرف حينها باتفاق ريجا (عاصمة إستونيا) والذى عقد بين الفيدرالية الروسية السوفيتية وأوكرانيا السوفيتية وبولندا، ضمت بمقتضاه بولندا المناطق الغربية من الإمبراطورية الروسية، ثم قامت بولندا بعملية توطين واسعة لسكان بولندا فى تلك المناطق فى محاولة لتغيير التركيبة العرقية للسكان وأطلقت عليها “المناطق الشرقية”

وجاءت اللحظة الحاسمة فى تاريخ العالم عام 1922، حيث ظهرت أول دولة اشتراكية فى العالم، تأسس الاتحاد السوفيتى وانضمت أوكرانيا للاتحاد السوفيتى بعد جدل ونقاش طويل، لكن فى النهاية انتصرت وجهة نظر لينين، القائمة على بناء دولة اتحادية على أساس فيدرالى، وفى الإعلان عن تاسيس الاتحاد السوفيتى، وبعد ذلك فى دستوره عام 1924، ينص على أن كل دولة لها حق الانفصال عن الاتحاد السوفيتى، وهنا يعتبر الرئيس بوتين هذا النص كان بمثابة أخطر “قنبلة موقوته” وضعت تحت بناء الدولة السوفيتية، وانفجرت وفق الرئيس الروسى بمجرد نزع فتيل الأمان المتمثل فى إلغاء الدور القيادى للحزب الشيوعى السوفيتى، الذى انهار من الداخل، وفق الرئيس بوتين، وأدى إلى “طابور الدول” الراغبة فى الانفصال. وفى 8 ديسمبر 1991 تم توقيع اتفاقية بيلافيجسكى التى قام على أساسها “رابطة الدول المستقلة” أو الكومنولث والتى أعلن من خلالها أن الاتحاد السوفيتى لم يعد موجوداً كعضو فى المجتمع والقانون الدوليين، مع العلم بأن أوكرانيا لم توقع على ميثاق رابطة الدول المستقلة الذى تم إقراره عام 1993.

فتوي مهمة

جرت مياه كثيرة فى النهر، حتى ضعفت الدولة السوفيتية وهرول الجميع للاستقلال، بمن فيهم أوكرانيا، وعندما رأى عمدة سان بطرسبورج أناتولى سابتشاك القانونى البارع أن الدولة السوفيتية تنهار أمام الجميع وكل دولة تسعى للاستقلال عن الدولة المركزية بموسكو، أصدر فتوى هامة عندما قال كل الدول المكونة للاتحاد السوفيتى عام 1922، يجب عليها أن تخرج منه كما انضمت إليه، ومن ثم عليها التخلى عن جزء من الأراضى لم يكن يتبعها والحق بها بقرارات من السلطة السوفيتية، ومنها أوكرانيا يجب عليها أن تتخلى عن غرب أوكرانيا وجنوب ـ شرقها، وهنا فإن الرئيس بوتين لا يتحدث عن القرم، باعتبار أنها ليست محل جدل من الأساس فقد منحها خروشوف لأوكرانيا عام 1954.

الواقع الجيوسياسى

بعد هذا السرد التاريخى يقول الرئيس بوتين فى مقاله إن بلاده اعترفت بالواقع الجيوسياسى الجديد، بل فعلت الكثير لكى تتشكل أوكرانيا كدولة مستقلة ذات سيادة، فعلى سبيل المثال استطاعت أوكرانيا توفير 82 مليار دولار من الغاز والنفط الذى كانت تبيعه روسيا لها بأسعار استثنائية، واليوم تجرى وراء 1,5 مليار ثمناً لعبور الغاز عبر أراضيها.

ويشير الرئيس بوتين فى ختام مقاله إلى أن روسيا وأوكرانيا على مدى عشرات السنين والقرون تطورتا كدولة ومنظومة اقتصادية واحدة، ويؤكد الرئيس الروسى أن التعاون الذى كان قائماً بين البلدين على مدى الثلاثين عاماً الماضية يحسدها عليه الاتحاد الأوروبى، ويختتم بقوله نحن كنا شركاء مكملين لبعضنا البعض بشكل طبيعى، وهذا الإرتباط كان من شأنه أن يقوى القدرة على المنافسة ويضيف الكثير لقدرات البلدين.

مقال الرئيس بوتين التاريخى، سواء من حيث الموضوع أو السرد التاريخى للعلاقات مع أوكرانيا يضع الكثير من النقاط على الحروف فى العلاقات بين أوكرانيا وروسيا وهى إحدى نقاط الخلاف المستعصية على الحل بين روسيا والغرب، وفى تصورى ستستمر لفترة طويلة قادمة.

المقال كتبه الرئيس بوتين بعد لقائه بالرئيس الأمريكى بايدن، الذى اتصور أن الرئيس الروسى ربما شعر بأنه لا يعرف جذور التاريخ القديم أو الحديث للعلاقات بين روسيا وأوكرانيا. وفى اعتقادى أنه وضح الكثير من النقاط التى لم يكن الغرب مدركاً لها فى علاقات بين دولتين وشعب واحد.

 

التعليقات متوقفه