فريدة النقاش تكتب:التابع ينهض

88

قضية للمناقشة

التابع ينهض

كلما هل عيد دخلت البهجة إلي القلوب, وبشكل خاص قلوب المحرومين, هؤلاء الذين ينتظرون المناسبات لكي يفرحوا ويستمتعوا ببعض مباهج الحياة التي يتوفر عليها الميسورون طيلة العام.

وتكون الأعياد دائما مناسبات يتصدق فيها من يملكون ليسعدوا بعض من لا يملكون ولو لبعض الوقت, ثم تعود ريما لعادتها القديمة, كما يقول المثل, أي أن الانقسام الاجتماعي الذي تكسوه خلال الأعياد غلالات حريرية زاهية قوامها التجانس وعنوانها المحبة، هذا الانقسام يعود إلى وضعه الأول, ويتجلي قبحه كما كان, وأحيانا ما يكون هذا القبح أفدح إذا تفاقم الانقسام الاجتماعي.

يحدث ذلك في المجتمعات البشرية كافة رغم التفاوت في الدخول والمستويات, ومدي مشاركة الجماهير في صنع القرارات السياسية, ومن ثم قدرتها علي السيطرة علي مصيرها, وتأثيرها في صنع السياسات حتي تخدم مصالحها المشتركة.

وبات معروفا لعلماء التاريخ والاجتماع وللجمهور العام ان البشرية كانت قد عرفت قديما مرحلة اطلق عليها العلماء وصف المشاعية البدائية, وذلك حين كانت كل ثروات المعمورة ملكا مشتركا لكل سكانها والذين لم يكونوا قد عرفوا الملكية الخاصة بعد, ولا عرفوا التقدم العلمي الذي يمكنهم من مضاعفتها.

وقد استلهم علماء الاجتماع والمناضلون الاشتراكيون بعض خصائص هذه المرحلة ليؤسسوا عليها مجموعة من المفاهيم النظرية المعاصرة, جنبا الي جنب مجموعة الاستخلاصات التي توصلوا إليها من تحليل التجربة البشرية عبر العصور والتعرف علي خصائص كل مرحلة من مراحلها بدءًا من المشاعية البدائية, وكانت القوى الرجعية والمحافظة التي دأبت علي التلاعب بوعي الجماهير وتزييف وتسطيح الأفكار العميقة- كانت قد نجحت في تشويه الأساس الذي قامت عليه كل النظريات الاشتراكية تقريبا, والتي وجدت في المشاعية البدائية مخططا أوليا- وإن تبسيطيا- لأفكارها الأساسية عن الملكية العامة.

وهكذا نشأت المقولة الزائفة حول مشاعية النساء، كما اطلقوا عليها ليبثوا الرعب في نفوس وقلوب الناس؛ خاصة بعد أن كانوا قد عرفوا الملكية الخاصة, وراكم بعضهم الثروات على حساب الجماعة, ونشأ حرصهم علي توريث هذه الثروات لأبناء من أصلابهم, ثم دخلوا في حروب ضارية من أجل التملك والسيطرة.

وتجاهل المزورون كل السياقات التاريخية والخصائص الاقتصادية والاجتماعية التي نشأت فيها المشاعية, والأدوار التي لعبتها في العلاقات بين البشر. وجرى التركيز علي فوضي العلاقات الجنسية القديمة في محاولات خبيثة- لم يكن نادرا ان تؤثر تأثيرا عميقا في نفوس الجماهير العريضة وطريقة تفكيرها- وقصدت هذه المحاولات الخبيثة في الأساس لتشويه مفهوم الملكية العامة والذي هو أحد الأسس المركزية للفكر الاشتراكي, وذلك حين أضافت لهذه الملكية العامة ما سموه “مشاعية النساء”.

وكلما احتدم الصراع الطبقي في مجتمع ما وبرز وعي الجماهير بضرورة الملكية العامة لوسائل الانتاج اشتغلت ماكينة الفكر الرجعي بكل طاقتها لتعيد إنتاج هذه الأفكار القديمة والتي غالبا ما ربطت بين الملكية الخاصة والقداسة الدينية, ليصبح المساس بالملكية الخاصة محرما دينيا.

ولم يكن نادرا أن يحتدم الصراع ذاته- وان بلغة جديدة, وصيغ مختلفة داخل المؤسسات الدينية ذاتها, ولعل المثال الساطع في هذا السياق أن يكون نشوء “لاهوت التحرير” من قلب المؤسسة الدينية المسيحية مستهدفا تحرير الدين ذاته من سطوة الفكر الرجعي.

ويتوارى في هذا الخضم الهائل من الصراعات علي صعيد الأفكار والممارسات أصل الملكية والثروات الهائلة التي راكمتها البشرية في سياق تطورها, والأصل في كل هذه الثروات أنها ملكية عامة لكل سكان المعمورة, وهي الثروات التي استطاع الذكاء البشري عبر العصور أن يضاعفها, ولا يزال يقوم بهذه المهمة عبر التقدم العلمي والتقدم الهائل في اكتشاف العوالم المجهولة وما تحتويه من الثروات وما تقدمه من وقود بالمزيد من التقدم والابداع.

ويرى العلماء أن الثروات التي يتوافر عليها العالم يمكن ان تطعم ضعف سكانه, ومع ذلك لا يندر ان تعرف بعض البلدان الفقيرة المجاعات بعد أن استنزفتها القوى الاستعمارية, وتسلطت عليها جحافل الفساد والاستبداد في الداخل, ونعرف جيدا ان الاستعمار كان خير داعم لقوى الفساد والاستبداد علي العكس من ادعاءاته التنويرية.

فهل نستخلص من كل هذا ان العالم يتجه إلى الاسوأ, في رأيي أن الاجابة هي لا: بل انه رغم كل شيء يتجه الي الأفضل خاصة بعد أن ابدعت الشعوب التي كانت خاضعة للاستعمار ملاحمها العظيمة في المقاومة والبناء.

وبقي أمام هذه الشعوب أن تتخلص من ما اسماه أحد المؤرخين العرب “الاستعمار الداخلي” ويتمثل الاستعمار الداخلي في الفساد والاستبداد, وما يمكن أن نسميه بالزواج الكاثوليكي بينهما, وهو ما يفضي غالبا الي نهب ثروات البلاد وتعطيل تقدمها واستنزاف مواردها, وخاصة مواردها البشرية التي تتمثل في مثقفيها وخبرائها وعمالها المهرة, ذلك أن الدول التي استعمرت هذه البلدان ونهبت ثرواتها حرصت طيلة الوقت على أن تبقيها متخلفة تابعة عاجزة عن النهوض..ولكن التابع ينهض علي حد تعبير الروائية الراحلة الصديقة رضوي عاشور.

فريدة النقاش

التعليقات متوقفه